الوجه الآخر لحملة فطرة
📆 16/07/2022
مبادرة فطرة التي بدأت في 22 من الشهر الماضي، أطلقت حملة تبدو للوهلة الأولى أنّها مسالمة، هدفها التعبير عن وجهة نظر المغايرين* جنسياً تحت راية موحّدة. لكننا، وعند التنقّل بين منشوراتهم*، نجد تحريضاً واضحاً ضدّ المثلية الجنسية، ودعوة لإلغاء فئة كاملة من المجتمع، يطلقون* عليها "الشواذ". سنناقش في هذا المقال، في أربع محاور مختلفة، الأخطاء التي ارتكبها القائمون* على حملة فطرة، موضّحين لمَ من السذاجة دعمها والمشاركة بها.
المحور الأول: التسمية
بحسب مبادرة فطرة: "لاقينا "فطرة" هو أنسب اسم ليها، لأن هي دي فطرة ربنا اللي خلقنا عليها"
استخدام كلمة فطرة بهذا السياق وهذه الحدود الضيّقة التي تختصر كلّ تعقيد الإنسان بكلمتين (ذكر وأنثى)، يعبّر عن جهل باللّغة والعلم والدين نفسه. لغويّاً، الفطرة هي "الخِلقة التي يكون عليها كل مخلوق أَوّلَ خَلْقِه"، بما يعني أنّ الفطرة لا يتم تحديدها من قبل أشخاص معيّنين على حسب معتقداتهم* الدينية الخاصّة؛ وإنّما، بكلمات بسيطة، هي الأشياء التي يتطلّبها الجسم طبيعياً للاستمرار، كالحاجة للطعام والشراب والجنس والتواصل. ولا تحمل الفطرة بمعناها اللغويّ أيّ تفاصيل لاحقة عن نوع الطعام والشراب، أو الميول الجنسية المقبولة والغير مقبولة.
أمّا دينيّاً، فحسب الدين الإسلامي: "إنّ الإنسان يولد مع معرفة فطرية عن التوحيد والإحسان والقيم الإنسانية". فمثلاً، لهذا السبب يفضّل بعض المسلمون* أن يصفوا* من يعتنقون* الدين الإسلامي بالعائدين* بدلاً من المهتدين*؛ إذ يعتقدون* أنّ هؤلاء لا يتحوّلون* إنما يرجعون* إلى الإيمان الأصلي. بتعبير آخر: الفطرة هي التوحيد والإحسان، ولا علاقة لها بالجنس والتفضيلات الجنسية.
من الجدير بالذكر هنا، أنّ نشر المحبّة والتسامح هو شكل من أشكال الإحسان، أمّا نشر الكراهية والتحريض على العنف الذي تروّج له مبادرة "فطرة"، لا يمتّ للفطرة بصلة.
المحور الثاني: حقّ التعبير عن الرأي
بحسب مبادرة فطرة: "راية فطرة طلعت علشان نقدر نعبر بيها عن رفضنا القاطع لكل ممارسات الشذوذ الجنسي، وأي شخص او جهة او كيان يقدر يستخدم الراية لتعبيره عن دا، بطريقته هو (…) ولكن... نرفض كل أنواع العنف والإساءة بكل أشكالها.."
نشرت مبادرة فطرة غايتها من إطلاق الحملة بكلّ وضوح وتفصيل، ولكن من فرط الشفافية في الطرح، يبدو أنّهم* وقعوا* في تناقض مثير للانتباه. مجرّد إطلاق تسمية الشواذ على فئة من المجتمع تتضمّن ملايين من البشر، هو شكل خطير من أشكال العنف والإساءة والكراهية الذي تدّعي فطرة رفضه.
وصف حق الحياة لدى أفراد الميم عين+ بالشذوذ الجنسي، هو إساءة لفظية، لها أثر نفسي كبير على أفراد المجتمع. تحريض الآخرين على دعم الحملة وإطلاق هاشتاغ #مبادرة_رفض_الشـzوz بين حسابات متابعيهم* هو تحريض على العنف الجماعي والكراهية، مضاعف آلاف المرّات، ضد أشخاص لم ولن يبادروا* إطلاقاً بأيّ أذيّة تجاه هذا المجتمع الرافض.
في إحدى الدراسات الحديثة التي تمّت على ـ34000 مراهق من أفراد مجتمع الميم عين+ في الولايات المتّحدة، تبيّن أنّ:
ـ50% منهم* فكّروا* جدّياً بالانتحار.
ـ18% منهم* قاموا* فعلياً بمحاولة انتحار.
ـ75% منهم* عانوا* من أعراض القلق المرضي بالسنة الفائتة.
ـ61% منهم* عانوا* من أعراض اكتئاب بالسنة الفائتة.
ـ82% منهم* بحثوا* عن رعاية للصحة النفسية بالسنة الفائتة، و ـ60% منهم* لم يتمكنوا* من الحصول عليها.
هذه الأرقام، التي على الأرجح قد قمت* بتجاوز قراءتها، هي أعداد لبشر حقيقين (متلك ومتلنا). وإذا كانت النسب مرتفعة لهذا الحد في الولايات المتّحدة، حيث نسب الحرّيات أعلى بكثير مما هي عليه في مجتمعاتنا العربية، فهل تتخيّل* حجم الأرقام في بلادنا؟ ومن المتسبّب بها؟ مبادرات مشابهة لفطرة تحرّض كلّ من يفتقد للثقافة والحسّ الإنساني الكافي، على النبذ والشتم والتهجّم على أشخاص لم يطالبوا* سوى بالتواجد في سلام.
بالتأكيد، نحن في مبادرة فتّيش ندعم حقّ التعبير السلمي، لمن يوافقنا ويخالفنا بالرأي. من حقّ كل إنسان أن يمتلك رأي ومعتقد خاصّ به. ومن حقّ كل جماعة أن تعبّر عن أفكارها وتروّج لها بشعارات وأعلام وما إلى ذلك. لكن حرّية التعبير لا تعطيك* الحقّ بإلغاء وجود الأفراد المختلفين*، ووصفهم* بالشواذّ لمجرّد عدم مطابقتهم* لرأيك أو معتقداتك. حرّية التعبير لا تشمل نشرك* للكراهية وتحريضك* على العنف الذي يتحوّل لأذى هائل على أرض الواقع، كما تُبيّن الأرقام أعلاه.
المحور الثالث: هل فعلاً يمكن القضاء على المثلية؟
بحسب مبادرة فطرة: "مين بيدعمنا؟! بيدعمنا كل اللي عايز ان الفعل دا يختفي من البشر. لأننا في الأخير هدفنا واحد اننا نقضي على كل ممارسات الشzوz الج *سي اللي بتتنافى مع الفطرة السليمة اللي ربنا خلقنا عليها.."
الطرق التي يختلف بها كلّ إنسان عن الآخر لا تعدّ. فحتى الأشقّاء* لا يتشابهون* بلون الشعر والصوت والطول…إلخ. لكننا نتقبّل هذا الاختلاف لمعرفتنا بأسبابه المتعلّقة بالعوامل الوراثية والجينية الطبيعية. العوامل ذاتها لها تأثير مباشر على الهوية الجنسية والجندرية لكلّ
إنسان، وعلى ميوله* الجنسي. و عشرات السنين من الأبحاث العلمية تدعم هذا المنظور.
في الأسابيع الـ6 الأولى من الحمل، يحمل الجنين أعضاء أنثوية وإن كان الجنين على المستوى الصبغي ذكر. في الأسبوعين الـ7 و الـ8 من الحمل، تبدأ الأعضاء التناسليّة بالاكتمال، تحت تأثير هرمون التستوسترون ونسبة وجوده بمحيط الجنين. هذا الهرمون هو المسؤول عن تمكين نموّ الصفات الذكرية للجنين.
بفترة لاحقة، وبالتحديد بين الأسابيع الـ13 و الـ28، تحدِّد نسبة وجود التستوسترون بمحيط الجنين والعمليات الفيزيولوجية لديه استجابته للهرمون. هذه الاستجابة تتحكّم فيها المنطقة Xq28 من الصبغي x الموجود عند كِلَي الجنسين، وهي المسؤولة عن إضفاء صفات ذكرية على الجنين، وبالتالي مسؤولة عن التأثير في الميول الجنسي والهوية الجنسية لاحقاً.
وفي حالة الجنين الأنثوي صبغياً (أي غياب الصبغي y)، تلعب المشيمة والغدّة الكظرية عند الجنين دور هام بتحديد وصول التستوسترون للجنين، إلى جانب عوامل أخرى من طرف الحامل.
من البديهي والمثبت علمياً وتجريبياً، أنّ هذا التفاعل المعقّد بين هرمونات الحامل والجنين، والعمليات الفيزيولوجية بالمرحلة الجنينية، له نتائج أبدية لا يمكن عكسها.
وعلى الرغم من أنّ غالباً ما يتوافق الجنس البيولوجي مع الهوية الجندرية؛ إلّا أنّ هذه العملية -كحال كل ما في الطبيعة- تتأثّر بالعديد من العوامل. وهذا ما يؤدّي لظهور هذا التنوّع بالميول والهويات الجنسية عند الإنسان البالغ.
المحور الرابع: الترويج الغربي للمثلية
بحسب مبادرة فطرة: "هدفنا مواجهة الشذوذ الجنسي.. ومماسات الضغط اللي بيمارسها علينا الغرب لتطبيعه.. جايز الموضوع يبان صعب وشبه مستحيل، لكن لعلها تكون حجة لنا أمام الله".
من الممكن أن يكون هناك خلاف كبير بين فرضيّة الخلق الإبراهيميّة، ونظريّة التطوّر العلميّة فيما يتعلّق بالحديث عن نشأة الإنسان وأصله، لكن النقطة المتفق عليها في الحالتين أنّ الإنسان هو جزء من كون واسع، ومن طبيعة متنوّعة، طبيعة فيها مملكة حيوانيّة غير مدركة لمفهوم الخيار الشخصي. ومع ذلك، يوجد حوالي 1500 نوع من الحيوانات لديها ممارسات جنسية مثلية، ابتداءً من الأسود والزرافات، مروراً بالدلافين، وصولاً للبجع وطيور أخرى. ومازلنا نعتقد أن المثليّة الجنسيّة هي خيار شخصي يستوجب العقوبة، ومرض يستلزم العلاج، وثقافة دخيلة كان الغرب سبب انتشارها في مجتمعنا.
ما يجهله مطلقو* فطرة، أو ما يحاولون* إخفاءه، أنّ المثليّة موجودة وقد ذُكرت في التاريخ العربي القديم، وحتى في التاريخ الإسلامي الموثّق بحكم قدسية المراجع. وتمّ الحديث عن شخصيّات إسلاميّة بارزة كانت مثلية بشكل علني، وكان أوضحها ضمن بلاط الخلافة الأمويّة، حيث اشتهر عن الخليفة الوليد بن يزيد أبيات شعر يصف بها جنسانيته:
أدنيا مني خليلي عبد الإله من دون الإزارِ
فإنّي أيقنتُ أنّي غير مبعوثٍ لنارِ
أمّا في العصر الذهبي، أي في عصر الدولة العباسيّة، فكانت الحرّية الجنسيّة بأفضل حالاتها في المجتمع الإسلامي. فالخليفة الأمين بن هارون الرشيد صعد للعرش وهو مفصح عن مثليته، وحكم المسلمين* لمدّة خمس سنوات. والخليفة المأمون استمرّ حكمه 19 عام وهو ثنائي الميول.
الجدير بالذكر أن علنيّة الممارسات المثليّة لم تختفِ بعد انهيار الدولة العبّاسية، ممّا يعطي دلالة على تقبّل المجتمع الإسلامي لها في ذاك الزمن. حيث يُذكر أنّ الخلافة العثمانيّة التي يفتخر بها معظم المسلمين* اليوم، حافظت على حرّية العلاقات المثليّة، وأنّ المثلييّن* مارسوا الفنون من الموسيقا والرقص والتزيين. وإلى الآن، يوجد لوحات تصوّر الجنس المثلي بعصر العثمانييّن في عدد من المتاحف التركيّة.
فطرة تطالب بإقصاء المثليين* والقضاء عليهم* بحجّة أنهم* دخلاء على المجتمع، ومخرّبين* للعادات والقيم العربية؛ لكن وضوحاً، للتاريخ رأي مختلف. الغرب لم يصدّر لنا المثليّة، بل سلبنا بمرحلة من المراحل تنوّعنا، واليوم كلّ نضال كويري هو استرجاع لهذه الفطرة، فطرة التنوّع والاختلاف والتقبّل.
جميع محاولات التشويه والتهميش للأقلّيات نابعة من الخوف والجهل. والحلّ الوحيد لإيقافها هو استمرارنا بنشر المعلومات الصحيحة، والقصص التي تعكس حقيقة مجتمع الميم عين+. لأن هدفنا هو الوصول لمرحلة يُمكن فيها التعايش رغم الاختلاف.
المراجع
السيوطي: تاريخ الخلفاء - 1988
الإمام المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر - 1974
أحمد بن سليمان ابن كمال باشا: رجوع الشيخ إلى صباه في القوة على الباه - 1891
The Trevor Project National Survey on LGBTQ Youth Mental Health 2022
C.E. Roselli: Neurobiology of gender identity and sexual orientation. Journal of neuroendocrinology - 2018
Swaab DF.: Sexual differentiation of the brain and behavior. Best Prac Res Clin Endocrinol Metab - 2007
Bao AM, Swaab DF: Sexual differentiation of the human brain: relation to gender identity, sexual orientation and neuropsychiatric disorders. Front Neuroendocrinol - 2011.
Savic I, Garcia-Falgueras A, Swaab DF.: Sexual differentiation of the human brain in relation to gender identity and sexual orientation. Prog Brain Res - 2010
Henley CL, Nunez AA, Clemens LG: Hormones of choice: the neuroendocrinology of partner preference in animals. Front Neuroendocrinol - 2011
Hines M.: Prenatal endocrine influences on sexual orientation and on sexually differentiated childhood behavior. Front Neuroendocrinol - 2011
Berenbaum SA, Beltz AM.: Sexual differentiation of human behavior: effects of prenatal and pubertal organizational hormones. Front Neuroendocrinol - 2011
Balthazart J, Young LJ.: Chapter 48 - Mate Selection, Sexual Orientation, and Pair Bonding In: Plant TM, Zeleznik AJ, eds. Knobil and Neill’s Physiology of Reproduction, 4th edn San Diego, CA: Academic Press - 2015
Fetal Pasterski V.: Androgens and human sexual orientation: searching for the elusive link. Arch Sex Behav - 2017